الإطـــــــــــــــار العــــــــــــــــام

يصدر هذا التقرير خلال سنة شهدت تطوّرات سياسية وتشريعية واجتماعية عميقة، أثّرت بشكل مباشر على واقع حرية الصحافة وسلامة الصحفيين في تونس. اتّسمت هذه المرحلة بتزايد التوتر بين الفاعلين الإعلاميين والسلطة التنفيذية، واستمرار غياب رؤية حكومية واضحة تضمن حقّ المواطنين في إعلام حر ومستقل، ما انعكس سلبًا على المناخ العام للعمل الصحفي وعلى ثقة الصحفيين في منظومة الحماية القانونية والمؤسساتية.
تميزت السنة محل الرصد أيضًا بعودة الخطاب الرسمي الناقد لوسائل الإعلام، في ظل تراجع مؤشرات الحوار بين مؤسسات الدولة والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وضعف استجابة آليات التنسيق التي كانت قائمة سابقًا ضمن مركز السلامة المهنية.
هذا المناخ المشحون أثّر على أداء الصحفيين ورفع منسوب الرقابة الذاتية داخل غرف التحرير، خصوصًا عند تغطية المواضيع ذات البعد السياسي أو المتعلقة بالسياسات العامة.
على الصعيد التشريعي، شكّل المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بجرائم أنظمة المعلومات والاتصال تحديًا بارزًا أمام الصحفيين/ات، إذ استُخدم في عدد من القضايا لتجريم التعبير والنشر الرقمي، ما أثار الخوف والارتباك داخل الوسط الصحفي وأعاد النقاش حول ضرورة مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية الخاصة بحرية التعبير.
واستمر غياب قانون إطار شامل ينظّم حق النفاذ إلى المعلومة بفعالية، رغم مرور قرابة عقد على صدور القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016، في ظل استمرار العمل بالمنشورين الإداريين (عدد 4 و19) اللذين يحدّان من حرية التواصل مع وسائل الإعلام ويجعل الوضع يتسم في أغلب الحالات بالمماطلة والانتقائية. حيث تواترت حالات الحجب والتضييق على الحصول على المعلومات في غياب هيئة النفاذ إلى المعلومة التي تم الحاق موظفيها بإدارات أخرى ما جعلها مجمدة وعاجزة عن أداء دورها في التحكيم بين الإدارة والصحفي في ملفات الحصول على المعلومات المتعلقة أساسا بسير عمل المنشآت والإدارات العمومية والمتعلقة بالمصلحة العامة.
اقتصاديًا، واجه القطاع الإعلامي صعوبات هيكلية زادت من هشاشة المؤسسات والعاملين بها، مع تفاقم ظاهرة العقود الهشّة وتقلّص موارد الإعلانات العمومية والخاصة، ما أثر على استقلالية الخط التحريري وأضعف الحماية الاجتماعية للصحفيين، خصوصًا في المؤسسات الخاصة والمستقلة.
وفي الفضاء الرقمي، تصاعدت حملات التشويه والتحريض والابتزاز الإلكتروني ضد الصحفيين/ات والصحفيات، لا سيما أولئك العاملين على الملفات السياسية أو الحقوقية أو المعنيين بقضايا الفساد والحوكمة.
وساهم انتشار الذباب الإلكتروني واستخدام الخوارزميات في توجيه الرأي العام في خلق بيئة رقمية عدائية، تسهّل العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي والعنف اللفظي ضد الصحفيات.
ورغم هذا الوضع المأزوم، واصلت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أداء دورها كآلية وطنية مستقلة للإنذار المبكر ورصد الانتهاكات، وعملت على تطوير مؤشرات جديدة تتماشى مع المعايير الدولية الواردة في أهداف التنمية المستدامة (الهدف 16.10)، مركّزة على تتبّع الانتهاكات في حق الصحفيين وتقييم مدى التقدّم في مناهضة الإفلات من العقاب. ومع ذلك، لا تزال محدودية استجابة مؤسسات الدولة للإنذارات المبكرة وضعف التفاعل مع التوصيات السابقة من أبرز التحديات التي تعيق بناء منظومة حماية فعّالة ومستدامة للصحفيين/ات في تونس.
تماشياً مع المتغيرات التكنولوجية الحديثة وظهور أشكال جديدة من العنف الناتج عن التكنولوجيا، طوّرت النقابة مؤشرات خاصة بالعنف الرقمي خلال السنة التي يشملها التقرير.
ويظهر تحليل هذا السياق أن تراجع عدد الاعتداءات المسجّلة لا يعكس بالضرورة تحسّن بيئة العمل الصحفي، بل يرتبط أحيانًا بانكماش المجال العام وازدياد الرقابة الذاتية، الناتجة عن الخوف من الملاحقات القانونية أو حملات التشهير.
لذلك، يبقى ضمان بيئة حرة وآمنة للعمل الإعلامي رهين إرادة سياسية حقيقية لإصلاح المنظومة القانونية والإدارية، وتعزيز ثقافة احترام حرية الصحافة كحق دستوري ومكوّن أساسي من مكوّنات الديمقراطية التونسية.

تقــديـــم

تنشر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين سنويًا التقرير السنوي لوحدة الرصد بمركز السلامة المهنية، تزامنًا مع إحياء اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، الموافق لـ2 نوفمبر من كل عام، وذلك منذ سنة 2018.

ويهدف هذا التقرير إلى تشخيص واقع حرية الصحافة في تونس ومناخ عمل الصحفيات والصحفيين، ورصد حجم المخاطر والانتهاكات التي تهدّد سلامتهم الجسدية والنفسية والمهنية، فضلًا عن تقييم مدى التقدّم في مسار مناهضة الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضدهم.

سجّلت وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية، خلال الفترة الممتدّة من 15 أكتوبر 2024 إلى 15 أكتوبر 2025، 149 اعتداءً طال الصحفيين والصحفيات والمصوّرين والمصوّرات الصحفيات، وهو تراجع ملحوظ مقارنة بالسنوات الخمس السابقة التي تراوحت فيها الاعتداءات بين 210 و232 حالة سنويًا. ورغم هذا التراجع الكمي، فإن طبيعة الاعتداءات المسلّطة على الصحفيين والصحفيات لا تزال تمس جوهر حرية الصحافة، إذ شملت المنع من العمل، والمضايقات، والتتبّعات العدلية، وحجب المعلومة، والتحريض، والرقابة المسبقة، والاعتداءات الجسدية واللفظية، والاحتجاز التعسّفي، والتهديدات.

كما رصد التقرير اعتداءات صادرة عن قوات الاحتلال الصهيوني ضد صحفيين تونسيين أثناء مرافقتهم لأسطول الصمود العالمي لكسر الحصار على غزة.

ويُبرز التقرير في جزئه الأول تشخيصًا شاملًا لمختلف الاعتداءات المسجّلة من حيث النوع والخطورة، مع تحديد الأطراف المسؤولة عنها وتوزيعها جغرافيًا ومهنيًا.

وبرزت خلال فترة التقرير أشكال جديدة من العنف، خصوصًا العنف الرقمي الممنهج والتحريض الإلكتروني على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد خُصّص له الجزء الثاني من التقرير، نظرًا لكونها أشكالًا جديدة تستوجب تحليلًا خاصًا لطبيعة هذا العنف وأدواته وتأثيره على الصحفيين، مع الإشارة إلى التحديات التي تطرحها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مراقبة المحتوى وتأثيرها على حرية التعبير.

وتؤكّد عدّة شهادات أنّ الاعتداءات المتكرّرة تؤدي إلى أضرار نفسية ومهنية لدى الصحفيين، منها فقدان الشعور بالأمان، والتوتّر، والرقابة الذاتية، أو الانسحاب من الميدان. وتتطلب هذه الأنواع الجديدة من الانتهاكات استراتيجية دقيقة لمعالجة الأثر النفسي للعنف و توفير المرافقة القانونية والنفسية والدعم الميداني للضحايا.

كما تعتمد النقابة في تحليلها مقاربة النوع الاجتماعي، مع تفصيل خاص لحالات العنف المسلّط على الصحفيات، وما يتّصل بها من أنماط العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي والعنف الناتج عن التكنولوجيا.

أمّا الجزء الثاني من التقرير، فيتناول مؤشّرات الإفلات من العقاب في الاعتداءات المرتكبة ضد الصحفيين والصحفيات، من خلال رصد نسبة الاعتداءات التي استوجبت ملاحقات جزائية، ومآلات القضايا المرفوعة أمام القضاء وتقييم التزام مختلف الأطراف الرسمية وغير الرسمية بواجبها في حماية الصحفيين وضمان حرية عملهم.

ويُختتم التقرير بجملة من التوصيات العملية الرامية إلى تعزيز حماية الصحفيين والصحفيات، وتحفيز الدولة التونسية على وضع استراتيجية وطنية شاملة للسلامة المهنية بالشراكة مع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وضمان بيئة عمل آمنة تكفل ممارسة حرية الصحافة والتعبير، طبقًا للدستور التونسي والمعايير الدولية ذات الصلة.

 

التـــــــوصيــــــــات

بعد تسجيلها لـ 149 اعتداء في حق الصحفيين/ات والمصورين/ات الصحفيين/ات خلال السنة التي يشملها التقرير، تتوجه النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بتوصيات عملية إلى الجهات الرسمية وغير الرسمية، حيث تدعو: 

رئاسة الجمهورية:

  • مراجعة خطابها العام تجاه وسائل الإعلام والقطع مع خطابات التحريض والانتقاد لوسائل الإعلام الناقدة للسياسات العمومية.
  • إعلان القطع مع الإفلات من العقاب في الجرائم المسلطة على الصحفيين/ات، وتحفيز كافة الأطراف لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق هذا الهدف.
  • السهر على تعزيز حماية حرية التعبير والصحافة عبر دعم المبادرات التشريعية التي تراعي التزامات تونس بحماية الصحفيين وتضمن مكتسبات الحرية التي كرسها الدستور التونسي.
  • وضع خطة اتصالية منفتحة على وسائل الإعلام تضمن الشفافية والتقيد بحق الصحفي في الحصول على المعلومة من مصادرها وفق مبدأ عدم التمييز

مجلس نواب الشعب:

  • مراجعة شاملة للمرسوم عدد 54 بما ينسجم مع أحكام الدستور والمعايير الدولية لحماية حرية الصحافة.
  • تسريع المصادقة على مشروع قانون انشاء مادة التربية على وسائل الإعلام داخل المؤسسات التربوية.
  • التعهيد الفوري للجنة الحقوق والحريات بالمبادرة التشريعية المتعلقة بهيئة الاتصال السمعي البصري وإنهاء التعطيل غير المبرر المتعلق بها
  • إحياء عمل المركز الإعلامي بمجلس نواب الشعب كفضاء لتسهيل عمل الصحفيين وضمان إستمرارية التغطية لأشغال المجلس

الحكومة التونسية:

  • الاستجابة للمطالب المتكررة بإلغاء الإجراءات الإدارية المعرقلة لحق الصحفيين في الحصول على المعلومات، وخاصة المنشورين 4 و19 الخاصين بالتصريحات لوسائل الإعلام.
  • إنهاء التجميد غير الدستوري للهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي والبصري، وهيئة النفاذ إلى

 المعلومة

  • دعم مسار إصلاح الإعلام العمومي على أسس الاستقلالية والتعددية والشفافية.
  • الإلغاء النهائي للترخيص الشهري لوسائل الإعلام الأجنبية والإكتفاء بطاقات الإعتماد بوصفها ترخيصا يمنح سنويا للمثلي وسائل الإعلام الأجنبية
  • إنهاء الفراغ الحاصل في موضوع منح بطاقات الصحفي المحترف وسد الشغور في لجنة إسناد البطاقة

القضاء:

  • إيقاف إحالة الصحفيين خارج إطار القانون المنظم للمهنة (المرسومين 115 و116).
  • إيقاف كافة التتبعات المتعلقة بالمرسوم 54 الخاص بمكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال إلى حين البت في مشروع القانون المعروض على مجلس نواب الشعب.
  • ضمان مبدأ الانتصاف للصحفيين الضحايا، وإجراء تحقيقات محايدة وسريعة وفعالة في قضايا الاعتداءات على الصحفيين في آجال معقولة لمنع تكرار الجرائم.
  • فتح قاعات المحاكم أمام الصحفيين واحترام مبدأ علنية الجلسات وفق ما يقتضيه نص الدستور والقوانين المنظمة لعمل المحاكم 

وزارة الداخلية:

  • القيام بالتحقيقات الضرورية والتلقائية في الحالات التي تورط فيها أعوانها في الاعتداء على الصحفيين/ات وضمان محاسبتهم.
  • إحياء دور خلية الأزمة داخل الوزارة، والتي تعطل التنسيق معها لسنة كاملة، بهدف التدخل لصالح الصحفيين وتعزيز التنسيق الميداني مع النقابة خلال التظاهرات والأحداث ذات الطابع الأمني.
  • الالتزام بعدم احتجاز الصحفيين تعسفيا أثناء تغطيتهم الميدانية وإخضاعهم لإمضاء محاضر غير قانونية تحت مسمى ” التصوير دون ترخيص”

وزارة العدل:

  • تحسين واقع احترام حقوق السجناء الصحفيين/ات، وتوفير جميع الحقوق المناطة بعهدتها وحمايتها، كالحق في المعاملة المنصفة، والحق في الصحة، والحق في الزيارة، وغيرها من الحقوق.
  • الاعتماد على خبراء في الإعلام ومجلس الصحافة كمستشارين في ملفات حرية الصحافة والطباعة والنشر التي تنظر فيها المحاكم التونسية.
  • إطلاق سراح شذى الحاج مبارك ومراد الزغيدي وبرهان بسيس وسنية الدهماني

وسائل الإعلام:

  • اعتماد سياسات داخلية واضحة للسلامة المهنية والصحة النفسية للصحفيين/ات والمصورين/ات الصحفيين/ات.
  • وضع مدونات سلوك داخلية تُجرّم العنف والتحرش والتمييز في أماكن العمل عملا بأحكام اتفاقية منظمة العمل الدولية عدد 190.
  • الالتزام بتأمين الصحفيين خلال المهمات الميدانية ذات المخاطر العالية.

منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية:

  • إحداث صندوق وطني لدعم التقاضي لفائدة الصحفيين المتضررين من الاعتداءات.
  • تكثيف التعاون مع المنظمات الدولية العاملة في مجال حرية الصحافة لتبادل الخبرات والدعم الفني.
  • تنظيم حملات مشتركة لمناهضة العنف ضد الصحفيات والعنف الذي تيسره التكنولوجيا.

 

التقرير السنوي التاسع حول سلامة الصحفيين
الملخص التنفيذي